- أين هي أجمل صورة في العالم؟ (سألني أستاذ التصوير).
- في جيبي منذ ست سنوات (فكرت).
لم يمنعني عن ذاك الجواب سوى أنني أردت أن يبقى موضوع الصورة خاصاً بي، وعندما جاء جواب الأستاذ: "إنها في رأسك، ويجب أن تبقى هناك وفي اللحظة التي تتشكل خارج رأسك
فأنت ميت (كان يقصد الموت الفني)!، ربما كان من الجيد أنني صمتُّ و لم أتسرع في جوابي الأحمق ذاك، فلم أرغب بأن أبدو ميتاً أمام استاذي وأصدقائي بهذه السرعة، وكان من الجيد أيضاً أن الصورة على نحو ما هي في عقلي وأنني بالفعل أتخيلها دائماً. ولكنني بعدما سمعت جواب الأستاذ صرت خائفاً من طباعتها لأنني غير واثق من أن صورة أخرى ستنبت في عقلي بدلاً عنها، لقد كانت الصورة قاربي الوحيد الذي حملني إلى الماضي، وأعاد ربطي بما سلب مني بشكل حسي وليس مجازي، لقد كانت صورة من والدي يمكن أن تكون ما أريده، لكنْ إذا طبعتها ستأخذ شكلاً نهائياً وسيسقط القارب من رأسي وأفقد وسيلتي الوحيدة في السفر ثانية إلى الماضي.
لم يكن جواب الأستاذ مكتوباً على إحدى صفحات الدفتر لحظة قرأت السؤال في مساء ذلك اليوم من صيف عام ٢٠٠٦ في حمص، لكنني تذكرت كل تلك القصة، لقد كان السؤال محفوراً في ذاكرتي، أفكر الآن بأنني ربما بالفعل متُّ فنياً أثناء عملي في دمشق دون أن أدرك ذلك، وهذا الألم ليس إلا بسبب رفضي مغادرة الواقع!
تساءلت عندها عن جدوى احتفاظي بالصورة مجهولة الفحوى والهوية، طالما أنها لم تعد تنقذني وقررت طباعتها في تلك الليلة.
لم تسعفني التقنية المتوفرة في طباعة الصورة الشبحية تلك بسهولة، حتى عندما أغلقت عدسة جهاز الإسقاط الضوئي حتى آخرها، وحددت زمن الطباعة بثواني قليلة، كانت النتيجة صورة سوداء في شكل كامل، كان علي أن أمسك ورقة سوداء تحجب الشعاع الضوئي عن ورقة الطباعة الحساسة للضوء، وأن أحركها ذهاباً ثم إياباً، في أقصى سرعة ممكنة بحيث تلقت ورقة الطباعة الضوء مثلما تتلقى العين مشهداً بلمح البصر.
كان مشهد إعادة تشكل ملامح وجهي الطفولي قبل عشرين عاماً كما التقطه أبي في آخر صورة، وأنا أقف أمام أختي الكبرى التي تحمل بين ذراعيها أختي الصغرى مشهداً يستحق من أجله موت أجمل صورة في العالم.
و لكن وعلى نحو مدهش يشبه القصص المسحورة استيقظت في اليوم الثاني وعلى الأرض صورة واحدة سحقت عشرين سنة من الغياب، شعرت بأنني صرت أكثر خفة وعلى الرغم من أن مخيلتي أصبحت فارغة من تلك الصورة إلا أن الألم وشعور التعب تقلصا كثيراً.
باحثاً عن السبب فكرت أنه وعلى الرغم من أن الصورة المتخيلة تبدو صورة مستقبلية دائماً، مما يجعل المصور حياً نظرياً، إلا أن حقيقة التخيل لا يمكن أن يكون إلا اعتماداً على ماهو ماض من صور وأحداث وأحلام وأشخاص ومعارف، يفرض على الصورة المتخيلة روح الماضي في شكل كبير وتصبح مع استمرار وجودها، حاجزاً يمنع المصور من رؤية الواقع، و إن كان ذلك صحيحاً فإن قصة الرجال الخمسة الذين كانوا يتجولون في القرية وهم يحملون فوق رأسهم قارب كبير تنطبق علي بالفعل… لما سألهم أحد القرويين عن سبب حملهم للقارب أينما ذهبوا لدرجة أنه كاد يسحقهم أجابوا: هذا القارب أنقذنا من الموت على الضفة الأخرى من النهر، لولاه ما نجونا ولذلك لا نستطيع تركه.
ولكن كيف لصورة واحدة أن تسحقني؟ ربما لم تكن صورة واحدة! هي بالتأكيد الصورة الوحيدة التي كانت توجد بشكل فيزيائي، ولكن ربما هناك صور أخرى مختبئة في مخيلتي في مكان ما! طمعاً بأن أصبح أكثر خفة ومن يدري ربما ينبت لي أجنحة … بدأت أطارد الصور المختبئة في ذاكرتي. ومن أجل طباعتها ما علي سوا استحضارها إلى وعيّ ورسم ملامحها بدقة في عقلي حتى تتوقف عن التشكل اللانهائي المهلك في مخيلتي.